فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم له وقال: {ويجعل لكم نورًا تمشون به} القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {لئلا يعلم أهل الكتاب} الذين يتشبهون بكم {ألا يقدرون على شيء من فضل الله} الآية أخرجه النسائي موقوفًا على ابن عباس وقال قوم انقطع الكلام عند قوله ورحمة ثم قال ورهبانية ابتدعوها وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان، {فما رعوها} يعني الملة والطاعة حق رعايتها كناية عن غير مذكور {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} وهم أهل الرأفة والرحمة {وكثير منهم فاسقون} هم الذين غيروا وبدلوا وابتدعوا الرهبانية ويكون معنى قوله: {ابتغاء رضوان الله} على هذا التأويل: {ما كتبناها عليهم} ولكن ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به دون الترهب لأنه لم يأمر به.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى يعني يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد وآمنوا به وهو قوله تعالى: {وآمنوا برسوله} يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم {يؤتكم كفلين} أي نصيبين {من رحمته} يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران»، {ويجعل لكم نورًا تمشون به} يعني على الصراط وقال ابن عباس: النور هو القرآن وقيل هو الهدى والبيان أي يجعل لكم سبيلًا واضحًا في الدين تهتدون به {ويغفر لكم} أي ما سلف من ذنوبكم قبل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، {والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب} قيل لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين}، قالوا للمسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وكتابنا ومن لم يؤمن فله أجر كأجركم فما فضلكم علينا فنزل {لئلا يعلم} أي ليعلم ولا صلة أهل الكتاب يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحسدوا المؤمنين {ألا يقدرون} يعني أنهم لا يقدرون {على شيء من فضل الله} والمعنى جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم الذين لم يؤمنوا به أنهم لا أجر لهم ولا نصيب من فضل الله وقيل لما نزل في مسلمي أهل الكتاب {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر فشق ذلك على المسلمين فنزل لئلا يعلم أهل الكتاب يعني المؤمنين منهم أن لا يقدرون على شيء من فضل الله، {وأن الفضل بيد الله} يعني الذي خصكم به فإنه فضلكم على جميع الخلائق وقيل يحتمل أن يكون الأجر الواحد أكثر من الأجرين وقيل قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل هذه الآية فعلى هذا يكون فضل الله النبوة {يؤتيه من يشاء} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {وأن الفضل بيد الله} أي في ملكه وتصرفه يؤتيه من يشاء لأنه قادر مختار، {والله ذو الفضل العظيم} (خ) عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين الصلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة فعلموا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين فقال اهل الكتابين أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن أكثر عملا قال الله تعالى هل ظلمتكم من أجركم شيئا قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء» وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلة نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين إلا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى غروب الشمس ألا لكم الأجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال الله عز وجل وهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال فإنه فضلي أصيب به من شئت» أي أعطيه من شئت (خ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا اعملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال اعملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال أكملوا بقية عملكم فإن ما بقى من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور»، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.قال النسفي:

{أَلَمْ يَأْنِ} من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه أي وقته.
قيل: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين.
وعن ابن أبي بكر رضي الله عنه: إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدًا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} بالتخفيف: نافع وحفص.
الباقون {نَزَّلَ} و(ما) بمعنى (الذي)، والمراد بالذكر وما نزل من الحق القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} القراءة بالياء عطف على {تَخْشَعَ} وبالتاء: ورش على الالتفاف، ويجوز أن يكون نهيًا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} الأجل أو الزمان {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} باتباع الشهوات {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي وقليل منهم مؤمنون {اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض.
{إِنَّ المصدقين والمصدقات} بتشديد الدال وحده: مكي وأبو بكر وهو اسم فاعل من (صدق) وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين.
الباقون بتشديد الصاد والدال وهو اسم فاعل من (تصدق) فأدغمت التاء في الصاد وقرئ على الأصل {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضًا حَسَنًا} هو عطف على معنى الفعل في {المصدقين} لأن اللام بمعنى (الذين) واسم الفاعل بمعنى الفعل وهو اصدقوا كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا والقرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة {يُضَاعَفُ لَهُمُ} {يضعف} مكي وشامي {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي الجنة {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ} يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم، ويجوز أن يكون {والشهداء} مبتدأ و{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبره {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}.
{اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الفتيان {وَزِينَةٌ} كزينة النسوان {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} كتفاخر الأقران {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر الدهقان {فِى الأموال والأولاد} أي مباهاة بهما والتكاثر ادعاء الاستكثار {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد خضرته {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} متفتتًا، شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطامًا عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين.
وقيل: الكفار الزراع {وَفِى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكفار {وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان} للمؤمنين يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد.
والكاف في {كَمَثَلِ غَيْثٍ} في محل رفع على أنه خبر بعد خبر أي الحياة الدنيا مثل غيث {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} لمن ركن إليها واعتمد عليها.
قال ذو النون: يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها فإن الزاد منها والمقيل في غيرها.
ولما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله: {سَابِقُواْ} أي بالأعمال الصالحة {إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} وقيل: سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} قال السدي: كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين.
وذكر العرض دون الطول لأن كل ماله عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط، أو أريد بالعرض البسطة وهذا ينفي قول من يقول: إن الجنة في السماء الرابعة، لأن التي في إحدى السماوات لا تكون في عرض السماوات والأرض {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} وهذا دليل على أنها مخلوقة {ذلك} الموعود من المغفرة والجنة {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} وهم المؤمنون، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله {والله ذُو الفضل العظيم}.
ثم بين أن كل كائن بقضاء الله وقدره بقوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض} من الجدب وآفات الزروع والثمار.
وقوله: {فِى الأرض} في موضع الجر أي ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد {إِلاَّ في كتاب} في اللوح وهو في موضع الحال أي إلا مكتوبًا في اللوح {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} من قبل أن نخلق الأنفس {إِنَّ ذلك} إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب {عَلَى الله يَسِيرٌ} وإن كان عسيرًا على العباد.
ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} تحزنوا حزنًا يطغيكم {على مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها {وَلاَ تَفْرَحُواْ} فرح المختال الفخور {بِمَا ءاتاكم} أعطاكم من الإيتاء.
أبو عمرو وأتاكم أي جاءكم من الإتيان يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله، وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكرًا والحزن صبرًا، وإنما يذم من الحزن الجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبر على الناس {الذين يَبْخَلُونَ} خبر مبتدأ محذوف أو بدل من كل مختال فخور كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون، يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالًا وحظًا من الدنيا، فلحبهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به {وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الإنفاق أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي {فَإِنَّ الله هُوَ الغنى} عن جميع المخلوقات فكيف عنه؟ {الحميد} في أفعاله.
{فَإِنَّ الله الغنى} بترك (هو): مدني وشامي.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء {بالبينات} بالحجج والمعجزات {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} أي الوحي.
وقيل: الرسل الأنبياء.
والأول أولى لقوله: {مَعَهُمْ} لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب {والميزان} رُوي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به {لِيَقُومَ الناس} ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء {بالقسط} بالعدل ولا يظلم أحد أحدًا {وَأَنزْلْنَا الحديد} قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة.
ورُوي ومعه المرّ والمسحاة.
وعن الحسن: وأنزلنا الحديد خلقناه {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وهو القتال به {ومنافع لِلنَّاسِ} في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين.
وقال الزجاج: ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله {بالغيب} غائبًا عنهم {إِنَّ الله قَوِىٌّ} يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته {عَزِيزٌ} يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته.
والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والطغيان، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان.
ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعنَدَ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد.
وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وإبراهيم} خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام {وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِمَا} أولادهما {النبوة والكتاب} الوحي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الخط بالقلم.
يقال: كتب كتابًا وكتابة {فَمِنْهُمْ} فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين {مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل، ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم} أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء {بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وءاتيناه الإنجيل وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً} مودة ولينًا {وَرَحْمَةً} تعطفًا على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] {وَرَهْبَانِيَّةً} هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف. فعلان من رهب كخشيان من خشي.